عيد مار مارون، كفرحي، 9-2-2024

عظة المطران منير خيرالله

في قداس عيد مار مارون

الكرسي الأسقفي- كفرحي، 9/2/2024

 506

« أتت الساعة التي فيها يُمجّد ابن الإنسان » (يوحنا 12/23).

نحتفل هذه السنة بعيد مار مارون ونحن نعاني كلبنانيين من أزمة سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية لا سابق لها في ظل دولة منهارة مقطوعة الرأس ومؤسسات مشلولة يحكمها ويديرها حكّام فاسدون.

أمام هذا الواقع الكارثي، نحن مدعوون، كلبنانيين وكأبناء مارون بنوع خاص ومن هذا الدير بالذات حيث تاسست الكنيسة البطريركية المارونية وانطلقت في رسالة أممية، إلى وقفة ضمير تكون حافزًا لتوعية روحية وكنسية ووطنية ومدعاةَ تأمل نعود فيها إلى أصالة دعوتنا في النسكية على خطى مار مارون.

كل ما نعرفه عن مار مارون أنه عاش في النصف الثاني من القرن الرابع وأوائل القرن الخامس وأنه كان ناسكًا وكاهنًا. تجرّد عن كل شيء في هذه الدنيا وراح يعيش في العراء حياة نسكية على قمم جبال قورش قرب أنطاكيه، ويقضي أوقاته بالصلاة والصوم والتقشف المستمرّ ويجهد في الأعمال اليدوية في الأرض التي أقام عليها. وأعطاه الله موهبة شفاء الأمراض الجسدية والنفسية. فوضع بذلك أسس روحانية نسكية تميّزت ببُعدين متكاملين: البُعد العمودي في العلاقة مع الله والبُعد الأفقي في العلاقة مع البشر.

في بعدها العمودي، إنها روحانية الزهد في العالم والتماهي بالمسيح المعلّق على الصليب بين الأرض والسماء ليرفع البشرية إلى الله الآب ويصالحها معه بالروح القدس ويفتديها بموته وقيامته.

وفي بُعدها الأفقي، إنها روحانية الانفتاح على الإنسان، كل إنسان، من أجل حياة مشتركة مع آخرين من أبناء هذه الأرض ثم بالانتقال منها انتشارًا في اتجاه الشرق والغرب لتأدية الرسالة الحضارية علمًا وثقافة ولغة في خدمة ترقّي الإنسان والانفتاح على تعددية الانتماءات الدينية والثقافية والسياسية في الاحترام المتبادل والحرية.

إنها روحانية الصليب التي يصمد معتنقوها في صعود درب الجلجلة ويبقون واقفين مع مريم تحت أقدام الصليب ويقبلون الموت من دون خوف لأنهم يرجون القيامة.

تبنّى أبناء مارون مقوّمات هذه الروحانية النسكية وثبّتوها مؤسساتيًا في الكنيسة البطريركية مع البطريرك الأول مار يوحنا مارون، والتزموا بعيشها على مدى ستة عشر قرنًا في جبال لبنان ووديانه وفي دنيا الانتشار، فكانوا رسل خير وانفتاح وحرية وتحرّر، حتى أصبح الموارنة والحرية توأمين، وأصبحت المارونية بفضلهم مدرسة قداسة والتزام وطني وتواصل إنساني.

حافظوا في مسيرتهم التاريخية على ثوابت روحانيتهم وصمدوا في وجه الامبراطوريات والسلطنات على أنواعها بفضل وحدتهم حول رأسهم الواحد وأبيهم الروحي ومرجعهم الديني والزمني وقائدهم التاريخي البطريرك، وبفضل تعلّقهم بثوابت أساسية ثلاث: الإيمان والمعدور والقلم.

تمسّكوا أولاً بإيمانهم بالله في علاقة بنوية اتصفت بالحرية التامة، ولم يحيدوا عنه، وقدّموا الشهداء في سبيله، وأنعمت عليهم السماء بالقديسين الذين يقودون مسيرتهم نحو القداسة والارتقاء إلى الله.

ارتبطوا ثانيًا بأرضهم إذ اعتبروها هبةً من الله ووقفًا له. فتعلّقوا بها وفلحوها وحوّلوها بضربة معدورهم إلى جنّات خير وبركة وفرّت لهم الحرية والعيش الكريم والخبز الحلال. وأصبحت عنصرًا مكوِّنًا لهوتيهم.

وكانوا ثالثًا رسل ثقافة وعلمٍ ورقيّ. انتقلوا من مدرسة تحت السنديانة إلى أكبر جامعات الغرب حيث قيل عنهم « عالِم كماروني ». فحملوا ثقافة الشرق إلى الغرب وعادوا بثقافة الغرب إلى الشرق ليفتحوا المدارس ويؤسسوا المطابع ويفيدوا شعوب الشرق من منافع النهضة والحداثة، ويقوموا بنهضة دينية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية بقيادة بطاركتهم، لا سيما اسطفان الدويهي العالِم المؤرخ والمُصلح. ووضعوا مع إخوتهم اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين ودروزًا، أسس الكيان اللبناني الذي كرّسه في بداية القرن العشرين البطريرك الياس الحويك دولةً ووطنًا رسالة في العيش الواحد في الحرية واحترام التعددية تحت سقف الانتماء إلى وطن واحد.

يا أبناء مارون، أين نحن اليوم في حاضرنا المأساوي من ماضينا العريق ؟

وبأي أخلاقية نتعامل مع بعضنا لتحمّل مسؤولياتنا الكنسية والوطنية في سبيل بناء مستقبل واعد لأولادنا وأحفادنا ؟

ألا يجدر بنا أن نقوم بفحص ضمير نعود فيه إلى الله وإلى الذات فنتوب توبة صادقة ونطلب من إله الرحمة المغفرة والقوة على انطلاقة رسولية جديدة في مواجهة التحديات الآتية علينا جرّاء الحروب المستعرة عندنا وحولنا وفي مناطق أخرى من العالم ؟

هل نجرؤ على اتخاذ المبادرة لإطلاق حوار وطني حقيقي وصريح ومحبّ مع إخوتنا اللبنانيين لنعيد قراءة التاريخ وننقّي الذاكرة ونتعاون على إعادة بناء لبنان في دعوته التاريخية ورسالته الفريدة ليبقى نموذجًا في العيش الواحد بالحرية والديمقراطية واحترام التعددية ؟

هذا ما طلبه منا القديس البابا يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر ويطلبه منا اليوم قداسة البابا فرنسيس.

يا أبناء مارون، نعم نحن قادرون، اليوم كما في الأمس، أن نرفع التحدي مع إخوتنا المواطنين اللبنانيين وأن نكون رسل قداسة وثقافة وانفتاح. نحن أبناء الحياة. نحن أبناء القيامة.

Photo Gallery